“مطر.. مطر”
كنتِ تهتفين هكذا عندما ينزل المطر،
وكنتِ-يا أماه- إذا ما انهمر المزن، وجادت السماوات برحماتها، وسالت المزاريب
تتوقين للقاء المطر!
اليوم –ذلك اليوم- عندما هطل صاحبكِ بغزاره، كنت على السرير الأبيض
تتألمين. تقاومين الآهات. الجسد أوهنه المرض، ودق عظامه. والروح متعلّقة بالسماء يحفّها الإيمان القوي واليقين بالله. لكنكِ كنتِ عاجزة عن لقائه، والشّباك الزجاجي المحكم الإغلاق، لم يكن كافياً لإرسال التحية إلى المطر الغزير.
لقد ذهبتِ، وبقيت دموعي تمطر بغزارة، كمطرٍ لم يقابل أرضاً يوما ما.
وحيث سُجي جسدك الطيب الطاهر، في أقدس بقاع الأرض، هلّت السماوات قبل بضعة أسابيع بالمطر، واغتسلت أم القرى بماء منهمرٍ من عند الله، قريبا منه، ومن روحك الملعقة في السماء، وكنتُ هناك وكنتِ أيضاً.
واليوم، وفي العاصمة الرياض، حيث أمضيتِ ثمانية أشهر رفقةَ بلاء شديد، ومرضٍ مرير، فاضت السماء بمزنها من جديد، واغتسلت الأرض.
تيقنت حينها أنّ القطرات، بل المزون التي كنتِ تتوقين إليها عانقتكِ في جوف الأرض، ولا مست فيك روحكِ في السماء.
فليرحمك الرحمن، ولتحّل على روحك السكينة والاطمئنان.
ليالٍ كثيرة لنّ أنساها هنّا، كنت أحتال على طاقم تمريض المستشفى، وحراس الأمن فيه، حتى أدخل إلى غرفتك..
أتسلل..
أغفو قليلاً بجانبك ،
تسألينني بقلب حي: كيف سمحوا لك بالدخول؟
فأجيبك فوراً: تعرفين ابنك، لي طرقي الخاصة!
كنت من بين الجميع أملك تلك الصلاحية –ربما بإرادة إلهية –. لم يرجعوني أبداً. ولم يعتبروا وجودي غير نظامي ، على الرغم من أن النظام نفسه لا يجيز ذلك . فيا لبركة حلّت علي وأنتِ هنا. هنا فوق الأرض.
والآن .. أتذكر كيف أصبحتُ كبيراً يا أمي.
كبيراً بما يكفي؛ لأعرف أنني لم أعد طفلاُ في عينيك، ولأنكِ ذهبتِ بعيداً، ولأنّ “نؤوم الضحى” التي أعرف، لم تعد تنام في ضُحاها !
ولأن الشمس البشوشة التي تُشرق كل صباح، لم تعد تبّش في وجهي، وتهشٌ كما كانت تفعل أول مرّة.
لبشاشة لم يعرفها أحدٌ أنتِ، إذ قلّت بشاشة الوجه المليح!
كان العيشُ في نعيم الطفولة، يوم أن كنتِ حية نعيماً. حتى وأنتِ تصارعين المرض والموت. طفولة الابن الكبير الذي يتأخر في العودة إلى المنزل فتسهرين وتسألين. طفولة الموظف المسؤول الذي كان يصحو على حنان صوتك يأتي عبر هاتف، أو عبر باب البيت في الطابق العلوي؛ إذ تطرقينه فيصحو، فتتأكدين أنه استيقظ، فتذهبين، فيعود للنوم مرّة أخرى!
يملؤني الفخر حيناً، عندما أتذكر قولك لي: ضمني، فأضمك كي تشعري بالدفء، وأنا الذي كنت أتوق إلى ضمّة تسافر بي في بحر صدرك الواسع وحضنك الدافئ.
لكنني للأسف، أعود فأمتلئ بالحسرة على وداعٍ لم أشهده، وعلى نظرة كانت هي الأخيرة في ليلة شتّية بواسطة برنامج “تانغو”..
عجزتُ عن أن أخبرك بذلك السفر حتى لا أقلق مضعجك، وأنا الذي تملكني قلق المضجع بعدكِ كل ليلة.
“مات كثيرون حتى الآن، ولم أكتب شيئًا. كنت أرى أن أقل ما في الأمر، أن نكتب عن أولئك الذين ماتوا، لنقول أننا لن ننسى. صرنا ننسى حتى هذا العهد.” هذا ما كتبه يوما ما رفيق الأيام عبدالعزيز البرتاوي. لقد أصاب جرحاً غائراً : كيف لم أستطع أن أكتب عن أغلى من توفي، كيف لم أؤبن والدتي كما يجب! لكن الحروف تستعصي على إدراك المشاعر، وعلى توصيفها في أكثر الأوقات!
تحملني طائرة البيونغ، والايرباص كثيراً إلى العاصمة.
إلى حيث الأرض الذي شهدت ألمك، وتوجعك، ومعاناتك.. فأقترب منك كثيراً.
أتذكر ذلك جيداً.
قالوا لي أنكِ في السماء، وأنا أطير فيها بينك وبين الأرض. بين جسدك وبين روحك. أشعر بك. أتذكر صوراً كثيرة لن تمحوها الأيام، وأهتز رجفة ورهبة منك.. وأهتز شوقاً إليك يا أماه.
قلبي ممتلئ بهذا الفراغ.
حولي لا شيء يملؤه غيرك.
لا وجهاً يلوح في السماء سواك، لا حضوراً يكتمل الآن بعد ارتحالك.
أنتِ امرأة لم يعرف الكون مثلها في البشاشة والطهر والنقاء، والإيمان.
الإيمان الذي رسخ في عقلك كجبل، فأزهر قلباً تعلّق بالله!
كل شيء حولي الآن يُذكرني بك، يدفعني إليك، يغريني ويغويني بأن أرتقي سلماً في السماء، وألقي التحية على روحك الطاهرة الحية!
أن نتحدث قليلاً لأملأ بعض لحظات الصمت الكثيرة، التي ارتكبتها أثناء مرضك في المستشفى.
أن أرتمي في صدر السماء، صدر أمي فأستمد منه طعماً جديداً لحياتنا اليوم.
أن أحضن يديك بيدي، وعينيك، ووجهك، وألثم رأسك.
وآخذ من شعري لأضعه بدلا من شعرك الذي أخذه الأطباء منك.
لكن أنّي لي ذلك! كيف أفعل؟
كنتِ في كل مرة تمدين لي يد العون والمساعدة، فيتحقق أفضل مما أريد، يتحقق لي ما تريدين من الخير والفضل والعافية.
يخبرني الطيار أن موعد الهبوط قد اقترب، لكنني أريده أن يستمر في الطيران والتحليق. هكذا أشعر أنني معك، وأنني أحدثك صدقاً وحقا.
يخبرني أيضاً أن أغلق جهاز الكمبيوتر، لأتوقف عن الكتابة أيضاً. تباً له !
لا يوجد ما هو أكثر جرما من إبعاد ولد عن أمه، أو منعه من الكتابة إليها في غيابها.
توحدت أقوالهم فيك: “لم نرَ منها شينة، ولا عيبة، ولا مثلبة”!
كنتِ فوق الأمومة اللامتناهية التي تحملينها. تمتعتِ بمآثر ومحاسن وفضائل ومحامد نادرة.
لا نعرفٌ كثيراً من الحكايات التي حكوها عنك، لكننا نعرف الخير والصدق فيها.
أشتاق إليك، وأمتلئ باستمرار بمشاعر لا أعرف كنهها ..
ما أعرفه أنّ مناداة “زكية” الصغيرة التي أحبّها الجميع؛ لأنها تحملُ اسمك، يُعيد إلينا شعورا جميلاً، وذكرى سعيدة.
طوّعت نفسي بعدم الحزن عليك. إذ كيف أحزن على ضوء لم ينطفئ! وعلى جوهرة ثمينة لم تفقد قيمتها !
الرحلة شاقة مع الألم الروحي، هنا، فوق الأرض بدونك ..
لكنني أقول كما جرير:
صلى الملائكة الذين تخيّروا
والصالحون عليك والأبرارُ
وعليك من صلوات ربك كلما
نصب الحجيج ملبّدين وغاروا