على وقع المطر ونازك ..

جملةٌ غير مناسبةٍ من الفوضى تكتبها الحياةُ في دفاتر عمرنا، حتى وإن حاولنا أن نمنعها من الكتابة.

والصمتُ البشري المخزي ينتابنا حين ننحاز إلى ذواتنا فنكتشف أنّا لم نكن سوى عابثين في وجه التاريخ، وفي وجه الطبيعة، وكأننا خلقنا لنلهو ونلعب ونعبث، ونفعل كما يفعل العقيدُ المولود في قرية (جهنّم).

قطرات مطر متساقطة تقرع أُذنيّ قرعًا بعدَ منتصفِ الليلة الماضية، يستجيبُ لها جهاز التكييف الصامت حيث يناغي طفلة المطر وحده، ويردّدان معًا سمفونية عظيمة ينصت لها قلبي اللحظة. وتتحول الغرفة الداجية إلى فقاعاتٍ من الضوء. حتى إن نومًا هنيئًا كاد أن يصل عاود الرحيل لأتحدث إليّ بهمس يُشبه همس العشّاق، وألمح على منضدتي القريبة ديوان “نازك الملائكة”، فأتناوله ظمآن إلى صوت شاعرة حقيقية، و على وقع المطر أغني “على وقع المطر”:

“أمطري، لا ترحمي طيفي في عُمق الظلام

أمطري صُبِّي عليَّ السيل، يا روحَ الغمام

لا تُبالي أن تُعيديني على الأرضِ حُطام

وأحيليني إذا شئت جليدًا أو رُخام

أمْطري فوقي، كما شئتِ،على وجهي الحزين

لا تُبالي جسدي الراعشَ، في كفِّ الدجون

أمطري، سيلي على وجهي، أو غشّي عيوني

بلّلي ما شئتِ كفي وشَعري  وجبيني”

أقرأُ والدموع التي خرجت تُلبي يغرقُ فيها وجهي، يغتسل بها كدري وحزني، ثم أغفو كطفلةٍ غافلها النوم وهي تبكي؛ لأن ابن جارتها الشقي اغتصب لعبتها الجديدة. مرَّ طيفي في أيامٍ سابقة.. لمحته وسط الظلام، كان بالأمس يجول مدينة سكنته قبل أن يسكنها، وصباحاتها الهادئة تسكب في قلبه الحنين، حين يمرّ على حقولها الخضراء، ويتنفس هواءها النقيّ الذي لم تعبث به أنفاس تسعة ملايين يسكنون العاصمة.

أنتبه!

وأعود لنازك التي لطالما أبكتني وأفرحتني وأغضبتني، وأزالت عني بأغانيها العذبة همومًا وغمومًا. يهطل منها الشعر كما تهطل أمطارُ الربيع في بلادي، أعود لها بشغفٍ، وأردّد بصوتٍ ملؤه الصمت:

“أيُّها الأمطارُ قد ناداك قلبي البَشريُّ

ذلك المغرق في الأشواق، ذاك الشاعريُّ

اغسليه، أم ترى الحزنُ، حِماهُ الأبديُّ

إنَّ مثلَكِ يا أمطارُ، دفّاقٌ نقيٌ

أبدًا يسمع، تحت الليل، وقعَ القطراتِ

ساهمًا يحلمُ بالماضي وألغازِ المماتِ

يسألُ الأمطار: ما أنتِ؟ وما سرُّ الحياةِ؟

وأنا، فيمَ وجودي؟ فيمَ دمعي وشكاتي؟

أيُّها الأمطارُ ما ماضيكِ؟ من أينَ نبعتِ؟

ابنةُ البحرِ أم السُحْبِ أم الأجواءِ أنتِ؟

أم تُرى من أدمُعِ الموتى الحزانى قد عُصرتِ؟

أم دموعي أنتِ يا أمطارُ في شدوي وصمتي؟”

إنني هنا أغرقُ حقًّا، أشعر وكأني المتحدثُ والمعني بالإجابة وحده.. قلبي إنّه مثلُ الأمطارِ دفّاقٌ نقيٌّ، وقع القطراتِ يسمعها سمعًا مختلفًا.. ويتحول ليلي إلى ليلٍ شاعري لا يُشبه ليالي البشر حولي، فأسمع فوق القطرات أدقّ الأصوات: حركة العربات في الشارع البعيد/ عبث الجيران في الأعلى/ ضحكة عامل القمامة الليلي (وهي بالمناسبة ضحكة نادرة لا أسمعها سوى مرة واحدة في الشهر)/ وأصوات سيارات الإسعاف التي تتوقف في الجهة المقابلة حيث المستشفى الحكومي الكبير!

أتذكر فقيد الشعر العربي المعاصر، الشاعر الكبير محمود درويش، ألعب نرده كما كان يلعبُ، وأهتف لحبيبي القريب كما كان يهتفُ:

“إلى أين تأخذُني يا حبيبي من والديّ

ومن شجري، من سريري الصغير ومن ضجري،

من مراياي من قمري، من خزانة عمري ومن سهري،

من ثيابي ومن خفري؟”.

أضف تعليق